ننظم بمناسبة يوم العلم وعيد الطالب معرض ثقافي بعنوان "جسر الحضارة: المعالم القسنطينية، رحلة ترجمية عبر العصور"، بالقاء الضوء على أبرز المعالم التاريخية والحضارية لمدينة الجسور المعلقة، نسعى لإبراز أهم الحقب التاريخية التي مرت على مدينة الصخر العتيق منذ الفترة الرومانية في ما قبل التاريخ، مرورا بالحكم العثماني وصولا إلى قسنطينة الجزائر الحديثة بعد الإستقلال.
سنتكشف في هذا المقال ثلاثة معالم بارزة تمثل محطات زمنية رئيسة في تاريخ المدينة: آثار التيديس من العصور القديمة، قصر أحمد باي من العصور الوسطى، ومتحف سيرتا من العصر الحديث. هذه المعالم ليست مجرد أطلال وأبنية حجرية ميتة، بل سجل حي للغات والثقافات التي مرت على هذه الأرض العريقة.
لا تنسوا زيارتنا في المعرض الذي سيقام في بهو عمارة الأداب واللغات بجامعة الأخوة منتوري - قسنطينة 1 في التاسع عشر من ماي القادم انطلاقا من الساعة 9:30، لاستكشاف كل الأنشطة الثقافية والفكرية التي جهزناها لكم!
تيديس: شاهد الأثري على تعاقب الحضارات
يقع الموقع الأثري تيديس على بُعد حوالي 30 كيلومترًا من قسنطينة ببلدية بني حميدان تحديدا و يتربّع على مساحة 40 هكتار. يعود أصل تّسميت هذه المدينة إلى الكلمة البربرية "Tiddar"، و أطلق عليها "راس الدّار" و "مدينة الأقداس" نسبة للكهوف الكثيرة التي كان ينقطع فيها المتعبدون آنذاك، كما سُميت بمدينة الحرفيين لكثرة إنتاج الخزف التيديسي.
عُرفت تيديس في العصور القديمة عند الرومان باسم "Castelli Respublica Tidditanorum" أي المكان المحصّن ويرجع تاريخ تأسيسها إلى الفترة النّوميدية مع تعاقب عدة حضارات عليها نذكر منها: حضارة عصور ما قبل التاريخ -متجلّية في قبور "دولمن"- الحضارة اللولبية، البونيقية، الرومانية، البيزنطية والإسلامية. اشتهرت تيديس بدورها الاستراتيجي كمحطة بين مختلف المدن الرومانية، لكنها هُجرت في العهد العثماني بسبب قلة الماء وانعدام الأمن.
يضمّ الموقع أطلالًا لمبانٍ عامّة كالحمّامات الرومانية، المعابد، المدافن والمسرح التي تكشف عن أسلوب الحياة في تلك الفترة. إضافةً إلى ذلك، يمكن ملاحظة النّقوش ذات الدّلالات الدينية التي تعكس التداخل بين الثقافة الرومانية ونظيرتها المحلّية. كما لا ننسى إثراءها العديد من متاحف الوطن بحلي النّساء التيديسيات مثل: الأقراط، الأمشاط، الدّبابيس، والعاج بعضها معروض في المتحف الوطني سيرتا بقسنطينة.
قصر الباي أحمد: جوهرة قسنطينة التي تحكي تاريخًا
في قلب قسنطينة الجزائرية، يقف قصر الباي أحمد شاهدًا على عصور مضت، يجمع بين روعة الهندسة الإسلامية وعبقرية التاريخ. بُني هذا الصرح بين عامي 1825 و1835 بأمر من الباي أحمد، الذي أراده رمزًا لقوته وحُكمه، فاستغرق بناؤه عقدًا كاملًا ليتحول إلى تحفة معمارية تُمزج بين الطراز الموريسكي الأندلسي (الذي تقع حدائقه بالداخل ) والعمارة المغاربية المحلية.
لم يعش الباي أحمد طويلًا في قصره، فبعد عامين فقط من اكتماله، سقطت قسنطينة في يد الاستعمار الفرنسي عام 1837، ليتحول القصر إلى مقر للإدارة الفرنسية، بل وأقام فيه الإمبراطور نابليون الثالث خلال زيارته سنة 1865. حاول المحتلون طمس هويته بتدمير أجزاء منه، لكن جدرانه الصامدة حافظت على قصص من مروا بها: من أمراء وجواري إلى مقاومين.
يمتد القصر على مساحة 5600 متر²، ويضم 121 غرفة و 500 باب من خشب الأرز المزخرف، و27 رواقًا للتهوية، و250 عمودًا رخاميًا جلبت من دول متوسطية. ينقسم القصر إلى أربعة أجنحة رئيسة: جناح الحرم لعائلة الباي المكونة من أربع زوجات وابنته الوحيدة فاطمة التي خُصصت لها غرف فاخرة في الطابق العلوي، وجناح الحريم للخادمات و الجواري، والجناح الشتوي المُدفأ لسقوط أشعة الشمس عليه وكذلك لوجود حمام أسفله، والجناح الإداري الذي كان يُنظر فيه في قضايا الدولة. تحيط بالقصـر أربع حدائق تزينها نافورات ماء، كانت تُشغّل لإضفاء الهدوء وإخفاء أحاديث الباي السرية. أسفلها خزان مياه تعيش فيه أسماك حمراء صغيرة، بينما يختبئ أسطبل قديم مساحته 517 متر². تزيّن جدران القصر بالزليج المستورد من إيطاليا وإسبانيا، ورسومات جدارية يدوية لمدن مقدسة كمكة والمدينة، تعكس رحلات الباي.
أصبح القصر اليوم "متحفًا وطنيًا للفنون والتعابير الثقافية التقليدية" بعد ترميمه بين 2010 و2011. رغم محاولات التشويه، ظل القصر صامدًا كرمز للهوية الجزائرية، يحمل في تفاصيله حكايات مجدٍ وتحدٍ، ليُذكرنا أن الحجارة قد تسقط، لكن التاريخ لا يُنسى.
متحف سيرتا: خزان الذاكرة القسنطينية عبر العصور
متحف سيرتا من أهم المعالم التاريخية والثقافية بمدينة قسنطينة، ويعد ثاني أكبر متحف في إفريقيا حيث يضم أكثر من 7 آلاف قطعة أثرية من مختلف الفترات التاريخية، وهو عبارة عن بناية مربعة الشكل ذات مساحة 2100 م² بالإضافة إلى حديقة من تصميم المهندس المعماري كاستيلي ذو الأصول الإيطالية، بنتهما فرنسا احتفالا بمئوية احتلالها للجزائر وحمل بداية إسم مؤسس الجمعية الأثرية في قسنطينة: "غوستاف ميرسي" إلى أن تم تغييره تسميته بعد الإستقلال إلى "متحف سيرتا".
يضم سيرتا حديقة تحتوي على 202 قطعة أثرية و 14 قاعة؛ كل قاعة تمثل حقبة زمنية نذكر منها قاعات فترة ما قبل التاريخ، الفترة النوميدية، الفترة الرومانية، الفترة الإسلامية… هذا ما جعله مصنفا من طرف اليونسكو من بين أجمل وأثرى المتاحف العالمية.
من أبرز القطع المعروضة في متحف سيرتا هي "الأثاث الجنائزي" الذي استخرجته فرنسا من ضريح ماسينيسا، وهو عبارة عن: سيف، رؤوس رماح، خوذة، ذرع، أوسمة و إناء من فضة. تتواجد به أيضا قاعة قسنطينة التي تحمل مجسما صغيرا للمدينة و شوارعها خلال الفترة العثمانية إبان حكم أحمد باي. تحمل جدران هذا المتحف 406 لوحة اصلية أشهرها "الطبيعة الصامتة" أقدم لوحة في الجزائر.
إن رحلتنا عبر هذه المعالم القسنطينية الثلاثة تكشف لنا قصة مدينة عاشت وتطورت عبر العصور، محافظة على هويتها وثقافتها رغم تعاقب الحضارات. من الآثار الرومانية في تيديس، مرورًا بالفن الإسلامي في قصر أحمد باي، وصولًا إلى الحفاظ على التراث في متحف سيرتا، نرى كيف أن قسنطينة كانت وما زالت جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، وبين الثقافات المختلفة.
المصادر والمراجع:
- مقال حول مدينة التيديس الأثرية منشور على موقع GOVSERV- مقال حول الموقع الأثري تيديس منشور على موقع خريطة التراث الجزائري
- مقال حول مدينة التديس الأثرية منشور على موقع مديرية السياحة والصناعة التقليدية لقسنطينة
- مقال حول قصر الأحمد باي منشور على موقع مديرية السياحة والصناعة التقليدية لقسنطينة
- مقال حول قصر الباي منشور على موقع خريطة التراث الثقافي الجزائري.
- مقال حول قصر الباي منشور على موقع الإذاعة الجزائرية.
- مقال للأناضول حول متحف سيرتا.